عبد الله مكي يكتب: الإنقلاب العسكري .. فرص النجاح وأسباب الفشل (1 – 2)

(ضيعناك وضعنا وراك)، هكذا هتف عدد من السودانيين للفريق إبراهيم عبود بعد أن تنحى عن السلطة بثورة أكتوبر الشعبية، وما زال عدد من الناس يهتف باسم الرئيس النميري ويُناديه بلقبه المحبب للسودانيين (أب عاج)، وما زالت صوره في بعض البيوت وكثير من مركبات المواصلات العامة، رغم أنه – أيضاً – قد تنحى بثورة شعبية.

ويتكرر نفس هذا الأمر الآن – خاصة في المجالس الخاصة وصفوف الوقود والخبز والمواصلات – بالرغم أن ثورة أبريل قد أكملت عامين فقط. فلماذا يتكرر هذا الأمر خاصة بعد أي ضائقة اقتصادية تمر بها البلاد بعد تغيير النظام العسكري ؟

وهنا يتبادر لأذهان الكثيرين سؤال مهم، هل سيكون هنالك إنقلاب آخر ؟ أم أن إنقلاب 30 يونيو هو الأخير ؟ ونهاية الدورة الخبيثة (ديمقراطية – انقلاب – ثورة شعبية – فترة انتقالية – ديمقراطية – انقلاب)الخ.

لقد شكّلت الحروب الأهلية في (الجنوب ودارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والشرق) شكّلت رأس الرمح في الطريقة التي تُدار بها الدولة السودانية، وأثّرت في أنظمة الحكم العسكري والمدني معاً، ومهّدت لتقوية دور الجيش في السياسة، وتكاثرت بسببها الإضطرابات السياسية والخلافات الأيدولوجية.

فسنوات استقلال السودان الـ(65) كان نصيب الأسد فيها للحكومات العسكرية، حيث حكمت حوالي (55عاماً) أمّا الحكومات الديمقراطية المنتخبة فكان نصيبها من الحكم(10 سنوات فقط)، فهل فعلاً أنَ حل مشاكل السودان بيد العسكريين؟ وهل توق بعض السودانيين (لعسكري نضيف) – كما يُرددون في بعض نجواهم – هو قناعة بالانقلابات العسكرية ؟ أم نتيجة للإحباطات المتراكمة ؟ ولماذا يتدخل العسكريون في السياسة ؟ وما جدوى تلك الانقلابات؟ وما هو دور القوى السياسية في هذه الانقلابات؟ وكيف يُمكن تلافيها مستقبلاً؟ وهل سيكون انقلاب الإنقاذ فعلاً هو الإنقلاب الأخير في البلاد؟ أم هناك إنقلابات أخرى ؟ وما هي فرص نجاحها ؟ وما أسباب فشلها ؟

المؤسسة العسكرية

تُعتبر المؤسسة العسكرية من أهم المؤسسات التى خلفتها الدولة الإستعمارية، وهي العمود الفقري للدولة المركزية وتُمثّل أهم العناصر والأضلاع في دولة ما بعد الإستعمار.

وفي كتابه: (الجيش والمجتمع والسياسة في البلدان النامية) يقسم غيورغي ميرسكي جيوش بلدان آسيا وأفريقيا من حيث طابع الظهور إلى أربعة أنواع:

أولاً: جيوش الإستعمار الجديد: وهي جيوش البلدان التي كانت ذات سيادة في السابق وكانت لديها قوات مسلحة قبل الفترة التي ظهر فيها تأثير الإستعمار بهذا الشكل أو ذاك ومنها جيوش تركيا وإيران وأثيوبيا وأفغانستان وتايلاند واليمن.

ثانياً: الجيوش الإستعمارية سابقا: أي التي أسسها المستعمرون (وأُورثتها) السلطة الوطنية كما في الهند وباكستان والعراق وسوريا ومصر وزائير وبلدان أخرى.

ثالثاً: الجيوش التي ظهرت في سياق حروب التحرر الوطني (بورما – أندونيسيا – الجزائر).

رابعاً: الجيوش التي شُكلت بعد تأسيس الدولة الوطنية (أغلبية جيوش الدول الأفريقية).

هل الجيش مهم وضروري؟

يدور النقاش دائماً عن أهمية وضرورة وجود قوات مسلحة، فبين آراء متطرفة بعدم جدواها، إلى تشبُّه بالتجربة السويسرية، مرورا بفكرة (تجييش الشعب). فالذين يُنادون بضرورة وجود قوات مسلحة – رغم العبء الهائل الذى تلقيه على الميزانية – يعزون مناداتهم هذه إلى حجج واقعية مثل: خطر التدخل الخارجي، النزاعات الإقليمية، والحركات الانفصالية والتي قد تُؤدي لزعزعة أمن واستقرار البلاد.

 ومهنة العسكري في أغلب بلدان العالم مهنة محترمة تقليدياً، كما شاع عند أهل بعض المناطق في السودان قديماً: (ولدنا كان نجح للعسكورية، وكان سقط (أي فشل في الدراسة) فهو للطورية (أي الزراعة)، فيما عدا بعض المناطق والأقاليم الصينية والتي شاع فيها القول المأثور:(لا تصنع المسامير من الحديد الجيد ولا يتحول الإنسان الطيب إلى جندي).

المؤسسة العسكرية والسياسة

إنّ تدخل المؤسسة العسكرية في العملية السياسية أصبح سمة مائزة للدول النظامية وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين وإلى نهايته. فبين عامي ( 1970 – 1975م) فقط حدث حوالي 40 إنقلاباً عسكرياً في 30 بلداً في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. يقول غيورغي ميرسكي: (ولم يعد نادراً في العديد من دول القارات الثلاث إنتقال السلطة إلى العسكريين مع إبتعادهم عنها فيما بعد وعودتهم من جديد في الغالب).

لماذا يتدخل العسكريون في السياسة ؟

يقول العالم النفسي الإيطالي اميليو سيرفاديو: (إنّ التعود على الحياة في الثكنات حيث الإنضباط والمراتب لا جدال فيها، وحيث الأوامر لا تُناقش مطلقا، ولا موجب للتفكير الإنتقادي، كل ذلك يُؤدي إلى الإستبداد، ويسفر الطموح إلى الإستبداد عن رغبة حتمية في جعل مثل هذا النظام المطلق يشمل الحياة الإجتماعية أيضاً).

الباحث الأمريكي جورج لودج يشرح وظيفة ومهام القوات المسلحة فيقول: “(إنّ الدفاع دون العدو الخارجي وظيفة مهنية للقوات المسلحة، أمّا وظيفتها الرئيسية فهي إخماد القلاقل المدنية، ومكافحة الأعمال الهدامة الداخلية، والإبقاء على إستخدام التهديد بالقوة في العملية السياسية).

كثيرون يرون أنّ القوات المسلحة لا تتدخل في الشئون السياسية إلا إذا إشتدت حدة التوترات السياسية والصراعات الحزبية وصاحبها إنفلات أمني، فيرى العسكريون أنّ واجبهم الوطني يُحتّم عليهم التدخل المباشر لإيقاف التدهور أو النزيف أو لمساندة ثورة شعبية كما في الحالة السودانية.

كتب العالم الأمريكى ث. ويكوف: (إنّ العسكريين يلتزمون بنهج للأعمال يستجيب للظروف السياسية في البلد المعني، وهم لا يمكن أن يُعتبروا مسؤولين عن وجود أو إنعدام الديمقراطية، إنّ الدور السياسي للعسكريين ليس مرضاً سياسياً إنه على الأكثر من أعراض عدم النضج السياسي). ففي السودان ما من إنقلاب إلا وكان بدعوة من جهة سياسية بعينها، أو بتخطيط كامل ومشاركة منها.

فاعلية الجيش في السياسة

طبيعة تكوين الجيوش وهيكليتها مقارنة بالأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في العالم الثالث تجعلها أكثر فاعلية في الأداء السياسي، يقول غيوركي ميرسكي: (إنّ مركزية الإدارة والتسلسل الهرمي الصارم والإنضباط وسهولة الإرتباطات الداخلية، كل ذلك يُشكّل جانب قوة للقوات المسلحة، بالمقارنة مع المنظمات المدنية، ويساعد على زيادة فاعلية أعمال العسكريين عندما يشرعون بأداء المهمات السياسية). وهذه الفاعلية في السودان  تجعل القوى السياسية المنظمة والأيدولوجية تستفيد من هذه الميزة، خاصة اليسار والإسلاميين.

دخول الجيش في السياسة كارثة!

ويرى آخرون أنّ من أكبر الكوارث هو تدخل الجيش في العمل السياسي، ما يحرف الجيوش عن أداء مهامها ووظيفتها في حماية البلاد والتفرغ للتطوير والتخصصية، وكذلك دخولها في حلبة الصراعات السياسية يُفقد المؤسسة العسكرية قوميتها وحيادها. يقول محمد أحمد محجوب في كتابه: (الديمقراطية في الميزان): “أنْ يطلب المرء من عسكري أنْ يكون رجل دولة هو أشبه بأنْ يُطلب من محامٍ أنْ يُجري جراحة في الدماغ أو عملية زرع قلب. فحيثما استولت القوات المسلحة على السلطة، كانت النتيجة الضياع والقلق والفقر في جميع نواحي الحياة والإكراه والقمع”.

دوافع الإنقلابات العسكرية

الباحثون في شأن الإنقلابات العسكرية يرون أنّ الدافع الأكبر للإنقلاب يعود إما إلى طبيعة السمات التنظيمية للمؤسسة العسكرية، وتشمل التسلسل الهرمي وطبيعة التدريب والإنضباط التنظيمي. أو إلى حماية مصالح الجيش المؤسسية عندما يتهددها خطر تقليص الميزانية أوالإهمال أووجود مليشيات منافسة، أوالتدخل السياسي في شئوونه المهنية.

درجة المهنية

الكاتب الأمريكي صمويل هنتنغتون المدير السابق لمركز الدراسات الإستراتيجية بجامعة هارفارد وأستاذ العلوم السياسية المتخصص في إدارة الحكومات، وصاحب الكتاب الشهير : صدام الحضارات (The Clash Of Civilizations) قد أرسى نموذجاً تقوم على أساسه العلاقات العسكرية المدنية وهو ما سماه: (درجة المهنية) فيقول: (كلما كانت المؤسسة العسكرية مهنية في مهمتها، ابتعدت عن التدخل المباشر في السياسة. وكلما قلت مهنيتها، ازدادت تدخلاً في السلطة) ويرى هنتنغتون أنّ مهنية القوات المسلحة تكمن في تجويد مهمتها الأساسية وهي حماية البلاد من التهديد الخارجي، وهي ليست معنية بقضايا الأمن والسياسة الداخلية.

منع الإنقلابات العسكرية

لكي نتجنب وقوع الإنقلابات العسكرية، ونُضعف فرصة حدوثها، لابد من توفر الأسباب الآتية:

أولاً: قوة المؤسسات المدنية وكذلك المجتمع المدني.

 ثانياً: لابد من رسوخ حكم القانون وشرعية الحكومة.

 ثالثاً: يجب أن تُبسط وتنتشر الحريات.

 رابعاً: بالإضافة لمعرفة التأثيرات السالبة على البلد والمواطن من الإنقلابات السابقة.

خامساً: وأخيراً: قدرة النظام الحاكم التكتيكية على درء خطر الإنقلاب بهيمنته على القوات المسلحة.

خطر الانقلاب

ونعني به الظروف السياسية والأبعاد الهيكلية التي تُرجَح قيام الانقلابات العسكرية، فقد قدّم العالمان والخبيران في الشؤون السياسية (بيلكن وسشاوفر) نموذجاً يُمكنه أنْ يُرجَح وقوع انقلاب وأسمياه (خطر الانقلاب). ويشير الخطر إلى الأبعاد الهيكلية طويلة المدى التي تُرجَح وقوع انقلاب وتشمل سمات حكومية، ومجتمعية، وعناصر من الثقافة السياسية، والعلاقة التي تربط المجتمع بالحكومة. ويفرقا بين الأبعاد الهيكلية، والمحفزات التي تسبق الانقلاب.

محفزات الانقلاب

وهناك محفزات عديدة تسبق عملية الانقلاب العسكري مثل: الأزمات الاقتصادية، وتدهور الأوضاع المعيشية، وإهمال الجوانب المهنية للعسكريين. ولكن تُعتبر الأزمات الحادة هي الحافز الرئيس في الإطاحة بالسلطة الحاكمة، وبرز دور السياسيين بحسبانه الأكبر في دفع العسكريين نحو استلام السلطة، وأدت المحفزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمهنية دوراً مهماً في إنجاح عملية  استلام السلطة عبر الانقلاب.

نواصل

Related posts